يمكن لحصول كلّ أعضاء الحكومة التي شكلها الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان على ثقة مجلس النواب أن يعني الكثير، خصوصاً أنها المرة الأولى التي يحصل فيها ذلك منذ قيام "الجمهورية الإسلامية" في العام 1979.

كذلك، يمكن للأمر ألا يعني شيئاً باستثناء أن "الجمهورية الإسلامية" ما زالت تراوح مكانها وتمارس لعبة الانتظار. بل يمكن القول إن إيران تعدّ نفسها لممارسة لعبة الرهان مرة أخرى على صفقة مع "الشيطان الأكبر" الأمريكي وعلى فوز كامالا هاريس على دونالد ترامب. يحصل ذلك في ضوء اكتشاف "الجمهورية الإسلامية" أن الرد على اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" في قلب طهران ليس مسألة ملحّة بمقدار ما أنه رد مكلف قد لا تكون قادرة، في الظروف الراهنة، على دفع ثمنه.
ما الفارق بالنسبة إلى طهران بين ما إذا كان إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي لـ"حماس" أم إذا كان هناك شخص بديل منه في هذا الموقع مثل يحيى السنوار المتواري عن الأنظار في أنفاق غزة؟
يعني نيل جميع أعضاء حكومة بزشكيان الثقة أن لا فارق بين رئيس إصلاحي أو رئيس محافظ ما دامت كلّ السلطات عند "المرشد" علي خامنئي الذي يميل إلى "الحرس الثوري"، كمؤسسة تسيطر على القطاع الأمني وعلى جزء أساسي من الاقتصاد. بدا الأمر واضحاً من زاوية خيارات بزشكيان الذي جاء بمتشددين إلى موقعي وزير الداخلية ووزير الاستخبارات. يعكس ذلك رغبة في السير في خط لم تحد عنه "الجمهورية الإسلامية" يوماً هو خط الأخذ والردّ مع أمريكا من باب الاستفادة المتبادلة متى وجدت ذلك مناسباً، واللجوء إلى القطيعة متى يحصل فقدان للأمل من "الشيطان الأكبر". ثمّة فرص تلوح لإيران أحياناً لا تستطيع سوى استغلالها في ما يخصّ علاقتها مع "الشيطان الأكبر" والتغييرات التي تحصل على مستوى المقيم في البيت الأبيض.
بدأت القصة مع احتجاز دبلوماسيي السفارة الأمريكية في طهران رهائن في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 1979. كانت تلك فرصة كي يتخلص الجناح المتشدد، على رأسه مؤسس "الجمهورية الإسلامية" آية الله الخميني، من أي شخصية معتدلة في السلطة. أدت حكومة مهدي بازركان، التي اضطرت وقتذاك إلى الاستقالة، الغرض من وجودها. مررت بضعة أشهر تظاهرت فيها إيران ما بعد الشاه بأنها منفتحة على العالم. ما لبثت عملية احتجاز دبلوماسيي السفارة الأمريكية التي سميت "عش الجواسيس" أن وفّرت فرصة لإسقاط حكومة بازركان وكشف الوجه الحقيقي للنظام.
نجح النظام الإيراني الجديد وقتذاك في تحدي أمريكا. احتجز الرهائن 444 يوماً. لم يطلقهم إلا بعد التأكد من سقوط الديمقراطي جيمي كارتر أمام الجمهوري دونالد ريغان الذي عقد خلال حملته الانتخابية صفقة مع الإيرانيين. أمنت هذه الصفقة فوزه على كارتر. لم تُطلق الرهائن الأمريكية قبل يوم حصول الانتخابات الرئاسية الأمريكية.. فسقط كارتر الذي حمّله الناخبون الأمريكيون مسؤولية التهاون والتعامل الرخو مع "الجمهورية الإسلامية" ومع "الطلاب" الذين كانوا يحتجزون الدبلوماسيين الأمريكيين في ظروف صعبة ومهينة.
لم يتغيّر هذا الوجه، الذي في أساسه تحدي أمريكا، مع هدنات تعقد بين حين وآخر لأسباب داخلية إيرانية. منذ خريف 1979 لم يعد من مكان لشخصية تتمتع بحد أدنى من المواصفات التي تسمح لها بحوار مع الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، مثل وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف. اضطر ظريف أخيراً إلى الاستقالة من موقع مساعد رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية الذي عينه فيه الرئيس مسعود بزشكيان. كانت لدى رئيس الجمهورية الجديد نية في العودة إلى تلك الأيام التي كان فيها نوع من الأخذ والرد مع الدول الغربية، لكن حساباته باتت مرتبطة بمشيئة خامنئي الذي لا يعتقد، أقله في الوقت الحاضر، أن ثمة ضرورة للاستعانة بابتسامة محمد جواد ظريف!
ليس سراً أن ظريف أدى الدور المطلوب منه في مرحلة معينة كانت فيها "الجمهورية الإسلامية"، بغطاء من "المرشد"، في حاجة إلى الاتفاق في شأن ملفها النووي مع مجموعة الخمسة زائد واحد (الولايات المتحدة والأعضاء الأربعة الآخرين ذوي العضوية الدائمة في مجلس الأمن زائد ألمانيا). كان ذلك صيف العام 2015 قبيل أشهر قليلة من انتهاء الولاية الثانية لباراك أوباما.
تكمن أهمية وجود مسعود بزشكيان في موقع رئيس الجمهورية، من دون مساعد له من نوع محمد جواد ظريف، في أنه بات صالحاً للعب الدور المطلوب منه متى توفرت فرصة جديدة لصفقة مع "الشيطان الأكبر". سيتوقف الكثير على ما إذا كان في استطاعة كامالا هاريس الفوز على دونالد ترامب. ثمة رهان لدى مجموعات إيرانية على هاريس التي تبدو محاطة بمجموعة من المستشارين الذين يؤمنون بوجوب التقرب من إيران. من بين هؤلاء باراك أوباما نفسه الذي لم يخفِ يوما، بإيحاء من صديقة العائلة فاليري جاريت، تفضيله "الإرهاب الشيعي" على "الإرهاب السنّي"، علماً أن الإرهابين وجهان لعملة واحدة، أكان ذلك في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن، حيث لم يعد سراً التقارب بين الحوثيين و"داعش" وما شابه "داعش".
ما يبدو أكيداً أن إيران تفضل انتظار ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الخامس من نوفمبر(تشرين الثاني) المقبل كي ترى هل من أمل في صفقة ما أم لا. في انتظار بزوغ الأمل أو عدم بزوغه، يظهر أن الأولوية الإيرانية لتفادي أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل وأمريكا. ستدع "الجمهورية الإسلامية" أدواتها تلعب في العراق وسوريا ولبنان واليمن، علماً أن ذلك لا يضمن عدم خروج اللعبة التي تمارسها من يدها ومن يد الأدوات.
الأمور مختلفة هذه المرة، خصوصاً أن إسرائيل في وضع لا تحسد عليه مع دخول حرب غزة شهرها الحادي عشر قريباً ومع التهديد الحقيقي الذي بات يشكله "حزب الله" بمسيراته وصواريخه ومدفعيته.. وحتى أنفاقه!