أستاذ الفلسفة يوسف زيدان.(أرشيف)
أستاذ الفلسفة يوسف زيدان.(أرشيف)
الخميس 16 نوفمبر 2017 / 20:19

قبل أن تصادر الصحافة التاريخ

إذا سلمنا جدلاً بأن الأنبياء والشخصيات الدينية المقدسة من بين هذه الرموز الذين سوف تشملهم هذه الحماية.. وهي الحماية التي تكفلها لهم بالفعل القوانين فى كل الدول الإسلامية، فعلى أي أساس نختار الرموز الوطنية الأخرى التي يتكفل القانون بحمايتها، ويعاقب من يتطاول عليها أو ينتقدها أو يخل بمقامها!

يبدو أن خصوم د. يوسف زيدان - أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية - يصرون على إدراج اسمه في مدونة "عجائب التشريعات ومساخر القوانين"، وأنه يسعى من وراء ستار لمساعدتهم في مسعاهم، وتقديم الحيثيات التي تدل على أحقيته في أن يشغل مكانة متقدمة في هذه المدونة الدولية، التي تنافس مدونة غينس للأرقام القياسية فى مكانتها، إذ لم تكد تمر أسابيع على القذائف التي أطلقتها على ذكرى البطل العربي الناصر صلاح الدين الأيوبي مهوناً من شأن ما اعتبره بطولات وهمية منحها له المؤرخون العرب، حتى أعلن عن اكتشافه التاريخي المذهل، وعلق فأس المسؤولية عن احتلال الإنجليز لمصر، في عنق الزعيم المصري أحمد عرابي، وهو ما دفع أحد أعضاء مجلس النواب المصري إلى الإعلان عن أنه بسبيله لتقديم مشروع قانون يقضي بالحبس أو الغرامة، أو إحدى هاتين العقوبتين على كل من يتعمد الإساءة عن طريق النشر، أو غيره من الوسائل، إلى أحد الرموز الدينية أو الوطنية للأمة، مؤكداً أن مشروع القانون سيصل إلى مجلس النواب خلال أسبوعين، وأنه يثق فى أنه سوف يوافق عليه بأغلبية كاسحة، خاصة بعد أن تعددت وقائع التطاول على هذه الرموز على نحو يتطلب أن يشملها القانون بحمايته، وأن يطول بعقابه كل من يتجاسر بالإساءة إليها، أو الحط من شأنها.

وليست هذه أول مرة يعلن فيها أحد النواب أنه بسبيله لتقديم مشروع قانون بهذا المعنى، ثم يعجز عن تحديد معنى المصطلحات أو الشخصيات التي يكفل هذا القانون حمايتها.. إذ ما الذي يقصده أصحاب فكرة هذا القانون بمصطلح "رموز الأمة"، الذين سوف يشملهم هذا القانون بحمايته.. وما حدود هذه الحماية؟ وإذا سلمنا جدلاً بأن الأنبياء والشخصيات الدينية المقدسة من بين هذه الرموز الذين سوف تشملهم هذه الحماية.. وهي الحماية التي تكفلها لهم بالفعل القوانين فى كل الدول الإسلامية، فعلى أي أساس نختار الرموز الوطنية الأخرى التي يتكفل القانون بحمايتها، ويعاقب من يتطاول عليها أو ينتقدها أو يخل بمقامها!

وما الذي نفعله إذا كانت كتب ومدونات التاريخ التى تروي سير هذه الرموز، سواء أكانت من الشخصيات السياسية أو العسكرية أو الأدبية أو الفكرية، تنطوي صفحاتها على وقائع وشبهات تنسب إليهم أخطاء بشرية وقعوا فيها أو ارتكبوها؟! فهل نتجاهل هذه الوقائع ونكذب رواتها من المؤرخين، أو نحاسب الذين يروونها منهم، أو ينقلونها عنهم، وفى مثل هذه الحالة: أي العقوبتين يقوم القاضي بتوقيعها على من يقوم بنشرها بإحدى الطرق العلانية.. هل هي عقوبة الحبس؟ أم عقوبة الغرامة؟ أم يجمع بين العقوبتين معاً؟ وكيف يقدر القاضي العقوبة في الأحوال الثلاثة؟

وقد ظللت لفترة أتوهم أن أفكاراً باستصدار قوانين من هذا النوع، هي مؤشر على مدى التدهور الذي أصاب بعض الذين يتسللون إلى المجالس النيابية والتشريعية العربية، ويوحي لهم خيالهم الرديء أن عضويتهم في مثل هذه المجالس تعطيهم السلطة لاقتراح ما يشاؤون من قوانين دون أن يدركوا أن حق الناس فى أن يشرعوا لأنفسهم، هو حق مشروط بأن تكفل هذه التشريعات حقوقهم وحرياتهم، وتصون حقوق وحريات غيرهم.

وكانت دهشتي بالغة، حين اكتشفت أن حكومة عبد الفتاح يحيى باشا، فكرت في عام 1934 في أن تستصدر قانوناً جديداً للمطبوعات، بعد أن تضيف إليه بعض المبادئ المبتكرة، ورأت أن تسرب بعض هذه المبادئ للصحف، لاختيار مدى تأثيرها على الرأي العام قبل المغامرة بطرحها للنقاش العام.. وكان من بينها نص يقول "ويعاقب بالحبس أو الغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين، كل من يتعرض بالنقد للحكام والخديويين السابقين والوزراء المتوفين".

وما كادت المادة تتسرب إلى الصحف، حتى استقبلها الصحفيون بحملة عنيفة واعتبرتها جريدة "السياسة" عجيبة من العجائب لأنها في رأيها تقضي على التاريخ المصري، ألا تكون مؤلفاته من وضع المصريين، لأن التاريخ لا يدون بشكل صحيح في حياة أولئك الذين تتصل بهم أحداثه، ولا تدون على حقيقتها إلا بعد رحيلهم.. وقالت "الأهرام" في نقدها لهذه المادة من مشروع القانون، إن الصحفي يعتمد على التاريخ في رواية خلفيات الأحداث، وفي المقارنة بين الماضي والحاضر، وتساءلت باستنكار: فهل من المصلحة العامة أن نُقيّد تناول الصحفي للتاريخ بقيود معينة، إلا القيود التى يفرضها البحث العلمى النزيه على أصحابه؟ أليس في ذلك - لو حدث - تعطيل لجوهر العمل الصحفي؟

وكان من بين ما أخذته "الأهرام" على مشروع القانون - كذلك - مادة أخرى تقضي بأن يكتفي الصحفي عند عرضه للتاريخ بسرد الحوادث دون التعليق عليها، ووصفت "الأهرام" ذلك بأنه "قول لا يقوم على أساس ولا يستند إلى حكمة" وأنهت مقالها قائلة: "إن فرض القيود على تناول التاريخ فاسد من أساسه مناقض للأسلوب العلمى فى البحث.. مشوه للحقيقة".. وهى خلاصة مضى عليها ما يقرب من ثمانين عاماً، لعل صاحب مشروع القانون، ومن يفكرون بطريقته يقرءونه، حتى يكتسبون العبرة من زمن عبد الفتاح باشا يحيى باشا.