السبت 15 فبراير 2020 / 19:10

نهج مغاير في نقد القَصِّ

قد تتباين الأساليب من قصة إلى أخرى، سواء قصد الكاتب هذا أم جاء الأمر عفو الخاطر

على قدر اليسر الذي يمكن أن نلقاه في قراءة المجموعات القصصية مقارنة بالروايات الضخمة في عدد صفحاتها فإن تقديم نقد متكامل للقصص يبدو أصعب مما نواجهه مع الرواية، فالأخيرة هي في النهاية، ومهما بلغ حجمها، حكاية واحدة لفكرة وحيدة مركزية، أما أي مجموعة فهي نثار من حكايات وشخصيات وعوالم وقضايا وأفكار ورؤى ومسارات، تتعدد فيه الأمكنة والأزمنة، وقد تتباين الأساليب من قصة إلى أخرى، سواء قصد الكاتب هذا أم جاء الأمر عفو الخاطر.

وإن لم يكن الكاتب قد قصد دوران قصص مجموعته حول موضوع أو مضمون واحد، وهو يجري أحيانا على قلته، فإننا نكون في أغلب الأوقات أمام تنوع وتوالى العناصر والعوامل والأسباب التي تجعل من الضروري أن نبحث عن عنصر حاكم أو مسار واحد لقراءة مجموعة قصصية ونقدها. وهذه العناصر تفصيلا هي:

أ ـ تعدد العوالم: فكل قصة في المجموعة أو بعض من قصصها قد ينتمي إلى عالم أو فضاء اجتماعي وإنساني مختلف عن البقية، سواء قصد الكاتب أن يصنع هذا التعدد، أو إنه انساق خلفه، مستجيبا لكل ما يجذبه إلى مسار صنعته مخيلته أو فرضته شروط الفن.

ب ـ تنوع الحكايات: إذ أن كل قصة في المجموعة حكاية غير أختها من القصص، وتتابع الحكايات متدفقة، ولكل منها مسارها الذي تشقه، ومصيرها الذي تنتهي إليه.

ج ـ اختلاف الأساليب: يمكن للكاتب أن ينوع طريقته في الكتابة بين قصة وأختها، وقد يكون قاصدا هذا أو يطاوع ذائقته ومخيلته وحالته ومساره، بحيث نجد أنفسنا مع الصفحة الأخيرة في المجموعة أمام أساليب وطرائق عدة في السرد والبناء.

د ـ تغير الحالات: التي مر بها الكاتب، أو الأجواء النفسية التي عبرها أثناء كتابة القصص، بين أمل مجنح وقنوط مقبض، وبين رغبة عارمة في تغيير العالم ونكوص عن هذا، وربما عدول وكفر به، وبين إقبال على الفعل وإحجام إلى السكون. ولا أقول أن هذا يجري بالضرورة لدى كل كاتب، مع كل مجموعة كتبها، لكنه على الأرجح هو الذي تصير الأمور إليه.

هـ ـ سخاء التجارب: فالمجموعة القصصية الواحدة لدى بعض الكتاب قد تقف خلفها تجارب متعددة، يكتسبها الكاتب عبر زمن الكتابة من حصيلة تأمله فيما كتبه، وما يقرأه عند آخرين سبقوه على الدرب، أو مطالعته لأعمال نقدية في فن القصة القصيرة.
و ـ تبدل الأزمنة والأمكنة: ففي المجموعة الواحدة نجد أنفسنا أمام أزمنة وأمكنة عدة ومتفاوتة، وهذا أمر طبيعي، إذ يمكن للكاتب أن يضم فيها قصصا تدور في أكثر من مكان، وتتعاقب على أزمنة متتابعة.

ز ـ تباين الشخصيات: ففي المجموعة الواحدة نجد أنفسنا، في الغالب الأعم، أمام شخصيات متبانية أو متنافرة بل متناقضة، لكل منها منهله ومشربه ومذهبه في الحياة وأهدافه ومسعاه، ومن دون شك فإن هذا يجعل تحليل القصص في سطور معدودات مسألة غاية في الصعوبة.

ح ـ الكتابة المشتركة: وهذا لون آخر من الكتابة القصصية ظهر في السنوات الأخيرة نتيجة لظور ما يسمى بالورش، أو اقتراب مجموعة أدباء من بعضهم البعض إما لشعورهم بالانتماء إلى اتجاه واحد في الكتابة، أو لرغبتهم في التغلب على صعوبة النشر بتمويل كتابهم شراكة بينهم.

ط ـ مختارات كاتب: وهو اتجاه شاع أيضا، إذ تقبل بعض دور النشر على إعادة نشر مختارات لكاتب واحد من عدة مجموعات قصصية في كتاب. وتكون هذه المجموعات وقصصها قد كتبت على فترات متباعدة، ما يعني أن كل ما سبق من تباينات قد ينطبق عليها.

ي ـ قصد المؤلف: حيث يتوافر دوما احتمال أن يكون الكاتب حريصا على التنوع، فيعمد في مجموعة واحدة إلى عرض قدراته وانشغالاته وطرائقه في السرد والتعبير.

من أجل هذا فإن أغلب من تناولوا مجموعة قصصية بالنقد، لاسيما أولئك الذين كانت محددة لهم مساحة الكتابة في الصحف والمجلات، لم يستطع أي منهم أن يوفي أي منها حقها، فاكتفى بعرض الفكرة أو الموضوع الذي تدور حوله كل قصة، مع الإتيان سريعا على بعض الخصائص الفنية.

وقد حضرت بالفعل حديثا بين أدباء كانوا يقولون إن الناقد لم يفعل شيئا في مقاله سوى عرض القصص، ولم يكن غير قلة منهم تدرك أن السبب يعود إلى أن قصصهم ممتدة فنيا وموضوعا إلى ما هو أبعد من أن يحيط به كاملا مقال أو دراسة قصيرة. وربما هذا يجعل من الضروري أن نبحث عما يمكن أن يؤدي الغرض، أو المقبول منه، في نقد مجموعة قصصية، ولا ينهي ما يعيبه الأدباء على النقاد تماما، إنما على الأقل يقلل منه إلى حد مقبول.

من أجل هذا تولد ضرورة التفكير في طريقة منضطبة، علميا وفنيا، للتعامل الحصيف الواعي مع أشتات من القصص. ولا يعني هذا الانضباط بالضرورة التعبير الكامل عن كل ما ورد في هذه القصص من تفاصيل الحكايات ومواقف الشخصيات ونفسياتها، ومضمون الأفكار واتجاهاتها، ومسارها الفني أو بنائها، إنما يعني بالقطع البحث عن نقطة التقاء، أو مرجع انتهاء، لكل قصص المجموعة على توزعها وتفرقها وتشتتها، سواء تعمد كاتبها هذا أو أنها أتت على ذلك النحو دون قصد منه.

إن كثيرا من الأفكار والتصورات النقدية المهمة الهائمة طالما تاقت إلى نقطة مركزية تنطلق منها أو إطار مرجعي تنتهي إليه، وعند الحد الأدنى سعت إلى ما تعارف عليه الناس بأنه "قواسم مشتركة" وإن كان كل هذا يرد إلى عالم الأفكار والمعارف أكثر من ارتداده إلى عالم الفن. لكن منذ متى كانت الأبواب مغلقة تماما بين ما هو معرفي وما هو فني؟

إن النقد الأدبي وإن تعلق بالأساس بتتبع وسبر أغوار وكشف أبعاد فن يتسم بالمراوغة والتمرد والهيام فإنه يريد في أدنى محاولاته أن يروض المراوغ، ويهيئ المتمرد للانسجام مع تصورات يقررها التفكير العقلاني، الذي لا تعني عقلانيته، بأي حال من الأحوال، مجافاة شروط الفن، إنما تفهمها وتقديرها وعدم الجور عليها.

وهذه "الفنية" أو "الأدبية" هي التي يجب أن تكون أصل أو أساس أي تصور أو تفكير يتعلق بالبحث عن "النقطة المركزية" أو "الإطار المحال إليه"، وهي مسألة قد تكون مستقرة في لاشعور الكاتب وهو يبدع قصصه، فهي وإن تنوعت عوالمها بنت قلم واحد يعبر عن شعور واحد، ولاشعور واحد أيضا، حتى وإن ارتقى ذهن الكاتب من مرحلة إلى أخرى، وتطورت كتاباته بقدر تعدد تجاربه، واتساع مطالعاته، ورغبته في تجويد نصه.

وبذا فإن الانطلاق من نقطة ما، أو الانتهاء إلى إطار معين في التعامل مع أشتات من القصص لا يعني بالضرورة جورا على أدبية الأدب، أو إجبار الفن على الخضوع إلى افتراضات العلم وتصورات الفلسفة، إنما هو امتثال للتعامل الطبيعي مع نص واحد لكاتب واحد، مهما تعاقبت خبراته وتعددت رغباته في الانتقال من عالم فني إلى آخر.

بناء على هذا أعتقد أن بوسعنا أن نقرأ كل مجموعة قصصية في إمعان وتركيز شديدين، ثم نجلس لنتأمل نقطة البداية التي ينطلق منها النقد، أو الإحالة التي يعود إليها. لكن هذا يتطلب التمهل في التفكير الذي يعقب القراءة، موضوعا وفنا، أو محتوى وشكلا، وعندها قد نضع أيدينا على ما يجب أن نبدأ منه أو نخلص إليه، وهو الذي يجعل بمقدورنا أن ننظم القصص كافة، على اختلاف عوالمها وتعدد شخصياتها وزمانها ومكانها، في مسرب واحد، لا يزعم بالضرورة أنه يمثل كل تفاصيلها، إنما بوسعه القول إن قد وضع يده على الصورة الكلية، أو المعنى الجامع، الذي يشغل الكاتب في شعوره أو لاشعوره.

لا يعني هذا أن رؤية نقدية من هذا القبيل بمكنتها أن تحيط وعيا ونقدا بكل تفاصيل القصص التي تحويها المجموعة، لكنها على الأقل تقدم مفتاحا مهما لقراءتها وإدراك معانيها ومراميها، وبالتالي يمكن البناء عليها في فهم التطور الذي ارتفاه الكاتب في مسيرته، أو اللبنة التي وضعها في مسار السرد القصصي برمته.

وقد يحال هذا المفتاح إلى نوع أو جنس من قبيل المرأة والرجل، أو قيمة إنسانية مثل الحرية والعدل والمساواة والانتماء، وحالة كالأمل والرجاء واليأس والفرح والحزن، ومجتمع نعرفه كالحضر والبداوة والقرية والمدينة، وموقف فني وفلسفي مثل العبث والتحقق والغياب والحضور والموت والحياة والتجديد والتقليد، أو تنصرف إلى أشياء ومعان وحالات أخرى يوزعها الكتاب والنقاد والعارفين إلى مسارات متعددة.

لا يعني هذا أن نحدد قيمة أو نوع أو حالة ما ثم نجبر القصص على السير نحوها قسرا، إنما علينا أن ندع القصص نفسها تبوح لنا بمكنون سرها، وعلينا أن نصبر حتى نصل إليه أو نقترب منه، وعندها بوسعنا أن نبدأ في النقد، أو إن صح التعبير، نشرع في الفهم والتعبير والتقريب والتصوير والتحليل، حتى لا تقل أو تتضاءل مزاعمنا حول إمكان نقد قصص مجموعة كاملة، تتعدد قصصها من مختلف الزوايا وإن كان كاتبها بالطبع شخص واحد.