السبت 29 فبراير 2020 / 20:36

تأثير فيروس "كورونا" على ثقافة المجتمعات والسياسات

هذا ليس "الوباء" الأول في تاريخ الإنسانية التي يجعل الناس مجبرين على تغيير الكثير مما يفعلونه بشكل آلي، والنظر إلى كثير منه باعتباره جزءا أصيلا من هويتهم، وطرق التعبير عن مشاعرهم ومواقفهم، مثل التزاور الأسري

لا يمكن للبشر أن يعاندوا فيروس كورونا الخطير، ويستمروا في أداء وتنفيذ كل ما ألفوه واعتادوه وصار من تقاليد حياتهم اليومية، وطقوسها التي تعارفوا عليها منذ قرون طويلة. فالمحاذير والمحظورات التي لا يكف الأطباء وخبراء الصحة عن ذكرها ليل نهار بغية توعية الناس من هذا "الوباء" الذي يتمدد من موطنه في الصين ليصل إلى دول في القارات الست، ويكسب كل يوم أرضا جديدة، تطلب تغيير كثير من العادات.

ابتداء، فهذا ليس "الوباء" الأول في تاريخ الإنسانية التي يجعل الناس مجبرين على تغيير الكثير مما يفعلونه بشكل آلي، والنظر إلى كثير منه باعتباره جزءا أصيلا من هويتهم، وطرق التعبير عن مشاعرهم ومواقفهم، مثل التزاور الأسري، وارتياد أماكن التجمعات البشرية في الأسواق ودور السينما والأندية وبعض المصالح الحكومية التي تقدم خدمات يحتاج إليها أغلبية المواطنين، فضلا عن الأماكن التي لا غني عن الذهاب إليها لكل فرد مثل المدارس والجامعات وأماكن العمل، أيا كان نوعه.
فقد قرأنا، على سبيل المثال لا الحصر، في الآداب الأوروبية عما وقع للناس أيام تفشي الطاعون في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، من ذعر واضطرار إلى تغيير نمط العيش. وكتب ألبير كامو عام 1947 روايته الشهيرة "الطاعون" التي حاز عنها جائزة نوبل، وهي تحكي عن عاملين في المجال الصحي بمدينة وهران الجزائرية يتكاتفان معها لمقاومة هذا المرض الخطير، ومن خلالهما نرى كيف أثر الوباء على الطبقة الشعبية.

وأطلعنا طه حسين في سيرته البديعة "الأيام" عن الأثر الاجتماعي لمرضى الكوليرا الذي صار وباء مهلكا في مصر أوائل القرن العشرين. وكرر خيري شلبي في روايته "الوتد" الأمر نفسه، وكيف كانت بطلته الجدة فاطمة تعلبة حكيمة، حين سدت منافذ بيتها، وحبست أولادها وأحفادها فيه، حتى وضع الوباء أوزاره. وحدثنا نجيب محفوظ في ملحمة الحرافيش عن شيء من هذا، حيث تفشي وباء أهلك الناس جميعا، وترك الأحياء خرابا، ولم ينج منه سوى بطله عاشور الناجي الذي ذهب بأهله إلى الخلاء، ثم عاد ليجد أمامه بيوت الأعيان بلا أصحاب فاختار أجملها واتخذه بيتا وصار سيد المكان وكبير الناس بعد أنه جاء سكان جدد لا يعرفون تاريخه. وكتب أمير تاج السر رواية عن وباء "الإيبولا"، الذي ضرب مناطق في جمهورية الكونغو كينشاسا، وامتد منها إلى جنوب السودان.

وأدى مرض "الإيدز" إلى تغير في أنماط العلاقات الجنسية، حيث زاد التحسب والحذر، ولم يعد الأمر على حاله القديمة، وأثر هذا قطعا على هجرات السكان من أماكن انتشار الوباء إلى أخرى، بغية السياحة أو العمل. وعلى التوازي انطلقت إمكانات الوقاية لتنتج أشياء جديدة في عالم الطب لم تكن معرفة فيما سبق، وقد يكون هذا قد ترك أثرا، ولو مؤقتا، على "تجارة الرقيق الأبيض".
اليوم ينطق "كورونا" ليقول لبعض المجتمعات، وعلى رأسها العربية، إنها في حاجة إلى تغيير أساليب المصافحة، وبعض أنماط العيش، إذ لم يعد من المستساغ أن يقبل الرجال أمثالهم، والنساء أمثالهن، حين يلتقي الجميع، كما جرت العادة، كأن يلقي أحدهم أربع قبلات بالتتابع على خد صديقه أو زميله حين يقابله، مثل ما هو في مصر، أو ثلاث مع إطالة الأخيرة، مثل ما هو متبع في بلاد الشام، تعبيرا عن الاحتفاء. ولا يمكن بالقطع أن يستمر الخليجيون في مصافحة الأنوف، التي ورثوها عن القبائل العربية وهي ترمز إلى العزة، باعتبار الأنف مكانها وموطن كبرياء الفرد. وربما تكون المصافحة بالأيدي هي الأقل ضررا، لكنها ليست مأمونة، بعد أن أظهرت الفحوص أن الفيروس ينتقل عبر مسامي الجلد. وقد تكون طريقة السودانيين في المصافحة هي الأفضل، حيث يتبادل المتصافحان وضع اليد على الكتف، هذا في اليمنى وذلك في اليسرى، ومع هذا فإن الاقتراب مثل هذه المسافة لا يمنع التقاط العدوى.
وهناك تأثيرات اجتماعية أعمق من هذا بكثير، حيث سيضطر الناس في أماكن تفشي الوباء إلى التكالب على تخزين السلع، وسيظهر تجار الأزمات، الذين يشبهون أثرياء الحروب، وستخلو الأماكن العامة من مرتاديها، وسينخفض التزاور بين الأقارب والأصدقاء إلى أدنى حد، وقد يقتصر على التواصل عبر الشبكات الاجتماعية على الإنترنت، وستكون السلطات على محك اختبار من قبل الشعوب، حيث ستقاس كفاءتها في إدارة الأزمة، ومدى اهتمامها بالناس، وما إذا كانت تمارس تعتيما أم شفافية.