موظفون طبيون ينقلون مصاباً بكورونا في الصين.(أرشيف)
موظفون طبيون ينقلون مصاباً بكورونا في الصين.(أرشيف)
الخميس 5 مارس 2020 / 19:49

الأوبئة والتاريخ... المرض والقوة والامبريالية

الأفكار والمؤسسات الطبية، ومنها بطبيعة الحال المؤسسات التي أنشأها الغرب بغرض مقاومة الأمراض الوبائية، ما هي إلا علاقات عن القوة والسيطرة بين الحاكمين والمحكومين

قدَّم المؤرخ شلدون واتسSheldon Watts في كتابه "الأوبئة والتاريخ... المرض والقوة والإمبريالية"Epidemics and History Disease, Power and Imperialism’ مقاربة ثقافية على درجة بالغة من الأهمية عندما ربط بين الأوبئة والأمراض وتواريخ الإمبريالية في العالم.

ورغم اندراج مقاربة شلدون واتس في علم تاريخ الأمراض والأوبئة، إلا أنَّ هذه المقاربة بالذات سلَّطت الضوء على أمر في غاية الأهمية هو أنَّ مؤرخي الطب الحديث يرون أنَّ الطب نفسه كان وسيلة رئيسية لنقل الأفكار الإمبريالية وتطبيقاتها. وفي هذا السياق فإنَّ الأفكار والمؤسسات الطبية، ومنها بطبيعة الحال المؤسسات التي أنشأها الغرب بغرض مقاومة الأمراض الوبائية، ما هي إلا علاقات عن القوة والسيطرة بين الحاكمين والمحكومين، التي تعكس في نهاية الأمر العناصر المكوِّنة للاستعمار.

وفي وجهة نظر هؤلاء المؤرخين فإنَّ الإمبريالية كانت أكثر من مجرد مجموعة من الظواهر الاقتصادية والسياسية والعسكرية؛ فهي إيديولوجية مركبة كان لها تعبيرات فكرية وثقافية وتقنية واسعة الانتشار في عهود سيادة أوروبا على العالم؛ فقد تفاعلت الإمبريالية مع المرض والأبحاث الطبية، وبذلك كان الطب نفسه وسيلة رئيسية لنقل الأفكار الإمبريالية وتطبيقاتها. إنَّ العلاقة بين الإمبريالية وطرق مقاومة الأمراض التي كانت أداة للتحكم في الشعوب المستعمَرة أوضحها المؤلف في العنوان الفرعي في الكتاب"الطب والقوة والإمبريالية".

إنَّ هناك عدة طرائق لدراسة "مقاومة الأمراض الوبائية" وكيفية انتشارها، ومنها الطريقة الاسترجاعية لدراسة الأوبئة Retrospective Epidemiology. إنَّ هذه الطريقة الاسترجاعية تعتمد في مرجعيتها على تقارير الرحّالة وكتبهم والمذكرات والمصادر الدينية وسجلات المعامل والمستشفيات. وتُعد كتب التاريخ التي يتعرض فيها المؤرخون لوصف الأوبئة مصدرًا مهمًا لهذه الطريقة. في كتاب"فتح أمريكا ومسألة الآخر" للناقد تزفيتين تودوروف هناك إشارات مهمة في الكتاب عن موت ملايين من الهنود الحمر بسبب عدوى الفيروسات والأمراض التي كان يحملها عدد كبير من المستعمرين الأوروبيين، وكان الهنود الحمر بسبب انعزالهم الجغرافي والتاريخي حديثي العهد بها. بعد وصول كريستوفر كولومبوس إلى الفارة الأمريكية، وخلال عقدين من الزمان تدفق الآلاف من شعوب شبه الجزيرة الإيبيرية الحاملين فيروس الجدري إلى هذه الأراضي البكر، وبذلك وصل وباء الجدري إلى أمريكا الوسطى عام 1518م، وإلى المكسيك عام 1521م، وإلى شعوب الإنكا شمالاً في عام 1527م.

قامت الإمبريالية في صراعها الدولي للسيطرة على ثروات إفريقيا وآسيا والأمريكيتين بنقل أمراض جديدة انتشرت في صورة أوبئة إلى شعوب القارات مباشرة عن طريق الغزو العسكري أو تجارة العبيد. ومن الأمراض المعدية التي ظهرت في أوروبا بين الشعوب التي استعمرتها أوروبا مثل إفريقيا والأمريكيتين، والشعوب القديمة التي استعمرتها أوروبا أيضًا مثل الهند والصين ومصر الأمراض الوبائية السبعة وهي الطاعون، والجذام، والكوليرا، والزهري، والجدري، والحمى الصفراء، والملاريا. لقد انتقل الطاعون إلى مدن الشمال الإيطالي عام 1347م عن طريق حركة التجارة والتجار من موانئ البحر الأسود، ثم انتقل من إيطاليا إلى داخل القارة ومنها إلى إنجلترا، وامتدَّ أيضًا إلى دول جنوب المتوسط ومنها مصر. وكان انتقال وباء الكوليرا إلى إنجلترا عن طريق التجارة وتأسيس شركة الهند الشرقية بالهند.

كتاب"الأوبئة والتاريخ، المرض والقوة والإمبريالية" في نسخته العربية من ترجمة وتقديم أحمد محمود عبدالجواد، ومراجعة عماد صبحي، ومن إصدارات المشروع القومي للترجمة بالقاهرة، ويُعد هذا الكتاب من المرجعيات التأسيسية لموضوع في غاية الجدة والطرافة ومن خلال مقاربة منهجية ذكَرتني باشتغالات الفيلسوف والمفكر الفرنسي فوكو على تواريخ العيادات والمستشفيات والمجانين من خلال منظور بنيوي فكّك علاقات الهيمنة والقوة في هذه الخطابات.