الأحد 15 مارس 2020 / 17:40

أصحاب القلم .. الذي يبقى والساقط من الذاكرة؟

صار نسيان من رحلوا من كبار كتابنا آفة، واستغلظ الأمر حتى بقي ظاهرة مؤسفة. فكل كاتب يموت تلقى على جثته المجهزة لتواري الثري آلاف وآلاف من الكلمات، في شكل رثاء سريع، ومقالات قصيرة أو مطولة تشيد بما كان عليه وما تركه بين أيدينا. ولا تمر سوى أيام حتى يبدأ النسيان يلفه، لينضم في هذا إلى رفاقه الذين سبقوه إلى العالم الآخر.

والتساؤلات التي تطرح نفسها في هذا المقام هي:
هل يغيب الجميع بلا عودة؟
أم أن هناك استثناءات لا تخطئها عين؟

وما الذي يجعل كاتب يعيش، وربما يخلد، وآخر كأنه لم يمر على الدنيا ولم يمسك بالقلم؟
في تصوري أن نسيان من ماتوا من أهل الكتابة لا يشمل الجميع، فهناك من بينهم الذي يزدهي حضورا بعد الغياب، أو على الأقل يحافظ على الوجود الثقافي والفكري عقب رحيله. وهؤلاء إما أنهم قد تركوا خلف ظهورهم ما يستحق الاستدعاء والاستفادة منه، أو ما ينطوي في داخله على أمر قابل للتجدد وإعادة الاكتشاف والفهم بمرور الوقت، أو أنهم حرصوا على أن يربوا على أيديهم تلاميذ أوفياء، يحملون أفكارهم لأجيال لاحقة، ويستمرون في الحديث عنهم وكأنهم يعيشون بين ظهرانينا.

كما أن هناك من لا يتمكن من نشر كل ما أنتجه أو أبدعه وهو على قيد الحياة، فيتوالى صدور كتبه بعد وفاته فيتجدد جريان اسمه على الألسنة. وهناك من تتوالى طبعات كتبه إما لأن دور نشر قد تحمست له، أو له ورثة يحرصون على نشرها، ويبذلون جهدا في هذا. ويوجد أيضا من يجدون جهات تتحمس لأفكارهم لأنها تخدم مصالحها ومسارها.

فالبعض تستدعي السلطة اسمه، وتدفع الجهات الثقافية الرسمية وتعقد لأعماله المؤتمرات والندوات، لأنها تعتبره ابنها، الذي يجب أن تظل وفية له، حتى تغري من هم على قيد الحياة بأن يحذوا حذوه. ويوجد من تخدم أفكاره اتجاهات سياسية او اقتصادية معينة، كأن يستدعي أتباع التيار الإسلامي كتابهم وكبار باحثيهم بعد رحيلهم، ويروجون لهم، وفي الاتجاه المضاد يفعل التياران اليساري والليبرالي مع كتاب كانوا يقعون في قلب مشروعما. ويضعف وجود أسماء الكتاب بضعف التيارات التي كانوا ينتمون إليها، سواء كان هذا الضعف من زاوية تمثيلها للجمهور، أو قدراتها المادية وسمعتها.

في وجه هذا لا يبقى للكاتب المستقل من سبيل لاستمرار وجود اسمه سوى الإخلاص لمشروعه، وبذل جهد فائق في إبداعه على أفضل وجه، وأن يكون مشروعا عميقا منحازا إلى قيم حقيقية، أو ينطوي على فن أصيل، ويعبر عن أشواق الناس إلى الحرية والعدل والكفاية والكرامة.

يكفي أن ننقر على أجهزة حاسوبنا لنبحث عن أسماء مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمد عبده وأمل دنقل ويوسف إدريس ومحمود درويش وبدر شاكر السياب ويحي حقي، لنرى أخبارا عنهم وكتابات، أكثر من تلك التي تتحدث عن كتاب على قيد الحياة.

في المقابل هناك من يعتمد في وجوده الثقافي على حضور جسده، وينشغل بهذا أكثر من انشغاله بأعمال تتحدث عنه سواء وهو بين الناس أو بعد أن يفارقهم إلى قبره. وهناك من لا يترك ما يراه اللاحقون مستحقا للاستدعاء والتفاعل من جديد، أو ليس له تلاميذ يتحدثون ويكتبون عنه إلى من لم يره أو يقابله، وربما لم يسمع عنه من قبل.

ولا يمكن في هذا المقام أن ننسى السرعة التي أصبحت حياتنا تتسم بها، والضجيج الذي يثيره الأدعياء في كل مجال حتى غطى على صوت الأولياء، وما يصيب بعض الورثة والأهل من إهمال كاتب هو أبوهم أو أخوهم.

في كل الأحوال فإن نسيان الكتاب بعد سنوات قليلة من رحيلهم، أمر يبعث على الأسى، لاسيما أن كثيرا من أصحاب الأقلام يفكرون دوما في خلود أسمائهم.

لكن الحكم على ما إذا كان الناس قد نسوا كاتباً أم لا، يجب أن يكون متمهلاً، فهناك من يغفل عنهم جيلهم أو جيل لاحق، ثم يعاد اكتشافهم بواسطة نبهاء من أجيال قادمة، يرفعون التراب الذي ران على أسماء هؤلاء الذين لم يتم الالتفات إليهم ما يليق بهم في زمانهم، ويبعثونهم في الناس أحياء من جديد، ليس بأجسادهم مثلما كانوا، لكن بأعمالهم التي خلفوها وراء ظهورها سطورا متتابعة.