السبت 11 أبريل 2020 / 20:11

ٍالتلفزيون في زمن كورونا

وحدت العواصم للمرة الأولى في عيون أجيال تعيش مأساة، تشبه تلك التي كان بعضهم قد قرأ عنها في الكتب والحوليات القديمة

تتبدد الطاقة العرمة التي اكتسبها بالمجاهدة حين يتابع عداد المصابين في كل دول العالم، حيث يجري من أسفل إلى أعلى غير مستقر على أرقام.

يقترب من الشاشة ويغمس فيها عينيه، لكنه لا يستطيع أن يدقق فيما هو أمامه، بل لا يجد أي رغبة في التدقيق، فهذا الجريان يقول بلا مواربة إن آلاف جددا قد دخلوا إلى الدائرة البشعة، وأن مئات قد سقطوا في الهوة السحيقة التي تتوسطها، وذهبوا بلا وداع.

كانت على يسار الشاشة فتاة تتحدث عن خالة لها ماتت في مستشفى العزل التي أقامتها الحكومة في النجيلة بصحراء مرسى مطروح. قالت إنها ذهبت غريبة بلا وداع. رأوا جثتها من وراء الزجاج، قبل أن يأخذوها إلى قبر مظلم، لا يمكن لأحد أن يفتحه إلا بعد ثلاثة أشهر، حتى لا يهجم عليه الفيروس الذي تسلل إلى جسدها، وراح ينه
ـ الموت في زمن كورونا مختلش رئتها المهيضة حتى صرعها. اختتمت كلامها، وهي تكفكف دموعها: 
في الأسفل شريط أخبار يجري أيضًا حاملًا النعي من كل مكان على وجه الأرض. توحدت العواصم للمرة الأولى في عيون أجيال تعيش مأساة، تشبه تلك التي كان بعضهم قد قرأ عنها في الكتب والحوليات القديمة، لكنها الأماكن تفرقت في أعداد موتى لا تقام لهم سرادقات عزاء، وتمضي أيام الحداد عليهم فاترة.

التقط "الريموت" ليهرب من هذه القناة المقبضة، فجاءت أخرى تردد كلامًا معسولًا، وتعرض صورًا مبهرة. بدت له أشبه بصندوق الدنيا الذي كان يتفرج عليه وهو صغير، حين يتوقف رجل يحمل صندوقًا هائلا فوق ظهره، أمام البيوت في القرى والأحياء الشعبية، وينفخ في مزماره، فيخرج إليه الصغار مسرعين، ليروا هذه الآلة العجيبة التي يرسلون أبصارهم من ثقب ضيق فيها فتهديهم مشاهد بديعة الألوان، لا نظير لها في دنياهم.
  
رأته ابنته وهو يقلب وجهه بين خوف وسخط، فاقترحت عليه أن يبحث عن قناة رياضية، حيث تعرف أنه متيم بكرة القدم، فوافقها. ما إن تابع لقطة من إحدى المباريات حتى ضيَّق عينيه، وتنهد في ضجر. كان قد شاهدها من قبل، ولا يزال يتذكر تفاصيلها، ويعرف أنه لو بحث من جديد على موقع إلكتروني يعرض مباريات اليوم، اعتاد مطالعته صباحًا قبل تفشي الوباء ليحدد أي مباراة سيتابعها في المساء، سيجد العبارة التي صار يجفل منها: "لا توجد مباريات اليوم".

انتقل إلى قناة فنية، فوجد فيلم "خان الخليلي" في آخر مشاهده، التي يصارع فيها أحد أبطاله مرض الدرن، لكنه ينهزم، ويسلم الروح لبارئها، قبل أن يحرموا الجيران والأهل من زيارته حتى لا تغزوهم العدوى المهلكة. وحدها حبيبته التي خاطرت لتلقي عليه نظرة الوداع، ووحده أخوه الأكبر الذي كان يكابد وجعين: أخ يرحل مغدورًا، وحب من طرف واحد.

وفي قناة دينية مجهولة كان يظهر فيها شخص متجهم ذو لحية كثة يتحدث عن قرب ظهور المسيخ الدجال. وأخرى عقارية كانت تعرض مقابر بأسعار مناسبة لكل الطبقات، وتتكئ على أن الموت الذي يحصد الأرواح بالآلاف كل يوم في بلاد بعيدة، قد نلحق بها.

كاد يبصق عليها، وتذكر ما قاله له صديقه في الليلة الفائتة:
ـ أشاهد برامج الأطفال، ربما أضلل كورونا الذي يتفادى الصغار.
لكنه لم يستطع الهروب من القنوات الإخبارية. ساقه فضوله إليها كالعادة، وهو يمنى نفسه هذه المرة أن يجد شيئًا مطمئنًا، كأن يقول أحدهم:
ـ وصلنا إلى الذروة، وستبدأ فترة الانحسار ثم الغياب.
أو يجد لقاءات مطولة مع متعافين في أي مكان، أو إحصائيات عنهم يتم عرضها بالتفصيل. أو حتى يقال إن الإصابات التي تم تسجيلها اليوم أقل من سابقه، وعدد الموتى بكل البلدان في تراجع.
لجأ إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فوجد نفسه يغرق مرة أخرى في بحر من الأخبار والتعليقات المتشائمة، وكأن هناك سباقا في العالم كله على جائزة ثمينة في القدرة على إثارة الرعب في نفوس ذبلت من فرط القلق وانتظار أفق يبدو مغلقا، ولا يريد أحد أن يمد يده ويأخذه إلى مكان أرحب. والأسوأ من كل هذا هم هؤلاء الذين يتاجرون بأوجاع تتسع بعرض الأرض وطولها.
اقترحت عليه ابنته أن يقرأ روايات، فنظر إليها في امتعاض، فهو لم يعتد هذا الصنف من الكتب، لهذا قال لها في فتور:
ـ احتاج إلى قراءة كتاب علمي يكشف لي ما نحن فيه.
قهققت وقالت:
ـ تصر على البقاء مرعوبًا.
هز رأسه وقال:
ـ ربما تفيدني المعرفة في المقاومة.
وجدها تمد إليه رواية "الطاعون" لألبير كامو، وقالت:
ـ ربما تجد في هذه إفادة أكثر.
وحين مضي في صفحاتها شعر أن صدره يرتج، فألقى بها إلى جانبه، وراح يشهق مغمض العينين، يريد أن يفرغ ذهنه من كل شيء. فقبل أيام كان قد استمع إلى خبير نفسي يقول إن التفاؤل، وعدم التعرض للمعلومات السيئة، يرفع المعنويات، وبذا يقوي جهاز المناعة، إلى جانب التغذية الجيدة والرياضة. لكنه كلما عزم على نسيان ما يجري خارج بيته، مكتفيًا بنفسه وأهله بديلًا للعالم بأسره، جذبه شيء إلى متابعة ما يكابده أخرون، وتملكه تبرير بأنه لا يمكن أن يغفل معاناة غيره ولو كان على الطرف الآخر من الأرض، دون أن يدري أنه ربما كان هذا نفسه يطلب منه في هذه اللحظة ألا يفعل مثله، وأن يتجاهل كل ما يحبطه.