غلاف الترجمة العربية لكتاب "نظام التفاهة".(أرشيف)
غلاف الترجمة العربية لكتاب "نظام التفاهة".(أرشيف)
الخميس 30 أبريل 2020 / 21:25

ألان دونو... "نظام التفاهة"!

يمثل "نظام التفاهة" بالفعل مصدرًا تأسيسيًا يمكن استكمال نماذجه الدالة ليس فقط في عوالم السياسة والاقتصاد والأكاديميا والإعلام وإنَّما حتى في مجال الثقافة بشتى تعبيراتها من خلال أنماط الثقافات الرائجة والثقافات الرفيعة

يبلور ألان دونو Alain Deneault أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة كيبيك الكندية نظريته الفلسفية الخاصة بسيادة "نظام التفاهة" في عالمنا اليوم. لقد لاحظ كارل ماركس في عام 1894 أنَّ رأس المال من خلال اختزاله للعمل labour إلى مجرد قوة عمل Labour Power أولاً، ثمَّ إلى وحدة مجردة للقياس، وأخيراً إلى تكلفته وبحيث يكون الأجر مساوياً لما يحتاج إليه العمال لإنتاج قوة عملهم، قد جعل العمال غير مبالين بالعمل ذاته. لقد فُقِدت الحرفة، ويمكن الآن للناس، كما يرى ألان دونو، إنتاج الواجبات على خطوط الإنتاج من دون أن تكون لهم معرفة بالحرفة ذاتها: يمكن لهم على سبيل المثال بيع كتب وصحف هم أصلاً لا يقرؤونها!

كان لورنس.ج.بيتر وريموند هال من أوائل من لاحظوا التطوّر التدريجي للتفاهة إلى أن أصبحت نظاماً متكاملاً يحكم العالم. وقد كان جوهر أطروحتهما يتمثل في مبدأ بيتر Peter Principle الذي طوراه بعد الحرب العالمية الثانيّة، ويتمثل في أنَّ العمليات النظاميّة تساعد الموظفين من فئة ذي الكفاءة الاعتيادية على الترقي حتى يصلوا إلى شغل مواقع السلطة، مزيحين بذلك كلّ من المنتمين لفئة ذوي الكفاءة العالية وفئة غير الأكفاء معًا.

في كتاب "نظام التفاهة" لألان دونو يطرح المفكر أطروحته الناظمة الكبرى التي تتمحور في أننا نعيش مرحلة تاريخيّة غير مسبوقة تتعلق بسيادة نظام أدّى تدريجيًا إلى سيطرة التافهين من خلال غياب الكفاءة، والذوق الرفيع، وبروز الرداءة، والأذواق المنحطة. ويوظِّف دونو مصطلحًا جديدًا نسبيًا هو Mediocracy، ويعني هذا المصطلح الذي ظهر عام 1825"النظام الاجتماعي الذي تكون الطبقة المسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التافهين".

 ومن أطروحات الكتاب: الإطار العام للعبة؛ فكلّ نشاط في الفضاء العام(إعلام أو أكاديميا أو تجارة أو عمل نقابيأ وغيره) قد صار "لعبة" تلعبها الأطراف جميعها رغم أنَّ أحداً لا يتحدث عنها، وهذا ما يؤدي بدوره إلى ترسيخ "نظام التفاهة". ومن أطروحات الكتاب كذلك سيادة لغة خطاب التفاهة، وقد مثّل دونو له بسيادة القص(ميثوس) أسلوباً من خلال القص المبسط الذي يستهدف المجاميع العقائدية، وسيادة "اللغة الخشبية"، وهي اللغة الجوفاء المحمَّلة بالحقائق حيث التأكيدات أي النطق بتحصيل الحاصل الذي يقوم على الحشو ومجرد التكرار، إلى جانب التبسيط الخطر ولاسيِّما مع تعقد المعارف وتداخلها. كما يتمثل "خطاب التفاهة" في المبالغة في التفاصيل، وموجات التسطيح، وتشابه الشخصيات، وغياب العقل النقدي، والرأسمالية المتوحشة، ووهم الكارزما، وتنميط العمل، واضمحلال الحرفة، وقولبة ونمذجة وسائط التواصل الاجتماعي. أن تتحوَّل الكثير من الجامعات الأوروبية والأمريكية إلى تسليع المعرفة الأكاديمية وبيعها إلى الجهات المموَّلة من المصانع والشركات العالمية الكبرى، هذا يعني أنَّ هذه الجامعات قد غادرت موقعها التأسيسيّ في كونها منتجاً للمعرفة إلى كونها "تابعاً" في "التسطيح" الذي هو أحد المفاصل الكبرى لنظام التفاهة.

رغم أن ألان دونو قد فكّك "نظام التفاهة " في العالم اليوم من خلال أطر مرجعية فلسفية أوروبية ترسخ المركزية الأوروبيّة النقدية، إلى جانب أمثلته المرجعية المتمثِّلة في نماذج كبرى أوروبية وأمريكية وكندية إلا أنَّ كتابه يمثل بالفعل مصدراً تأسيسياً يمكن استكمال نماذجه الدالة ليس فقط في عوالم السياسة والاقتصاد والأكاديميا والإعلام وإنَّما حتى في مجال الثقافة بشتى تعبيراتها من خلال أنماط الثقافات الرائجة والثقافات الرفيعة، ومفهوم "نظام التفاهة" في السياقات الثقافيّة العالميّة في المراكز والهوامش وفي سياق "عولمة الثقافات".

مترجمة هذا الكتاب الاستثنائيّ إلى العربية هي الدكتورة مشاعل عبدالعزيز الهاجري أستاذة القانون الخاص بكلية الحقوق بجامعة الكويت، والترجمة العربية صادرة عن دار سؤال اللبنانيّة. لقد قدّمت المترجمة لهذا الكتاب بمقدمة نقدية معرفيّة عميقة جدًا على درجة عالية من الرصانة المنهجيّة بحيث فكّكت أطروحة الكتاب الكبرى وأعادت صياغة أسئلته الفلسفيّة والمعرفيّة في نص موازٍ لايقل في رصانة طرحه عن أطروحة ألان دونو في استيعاب أطروحته وفي تفكيكها ونقدها.